Translate

Tuesday, 2 January 2018

شباك في هانوفر

لعل وقوع هانوفر على الطريق الواصل بين المدينتين اللتين تنقلت بينهما مراراً و تكراراً، جعلها أكثر مدينة أتمعن أبنيتها و بيوتها إما راكباً إحدى الحافلات أو القطارات _ كما هي حالتي الآن في لحظة كتابة هذا النص _ .
و بالطبع ليس لدي أدنى رغبة  في تغيير هذا التقليد فقد رفضتني هذه المدينة في المرة الوحيدة التي ترجلت شوارعها وبيدي قبعة قش و طوق من الفضة .
وفي إحدى الزيارات ومع تكرار مروري في المدينة كنت قد وصفت ل حلا طقوسي الخاصة خلال معايناتي الخاطفة تلك ...


آيار .. 2017
هانوفر


بعض المحطات في رحلتي لا يجب أن تمر كمشهد عادي خلف الزجاج...

هي خلقت كي ترصد حركاتي دائما
تتربص بفرحي و تؤول حزني وتحاسبني على رتابتي ..

لذا قبل أن أصل يجب أن أراجع قائمة تشغيل الموسيقى في هاتفي ذو المزاج المتقلب

علي أن أهتم بطريقة اتكائي على نافذة القطار كي لا أبدو عادياً ، بائس المظهر أو مجهداً حتى الإدمان ..

قد تغفر لي هذه المدينة كل شئ ... عدا الاختلاف ...

ففي شوارعها تركت وصيتي للحياة
..
وفي إحدى زواياها خبأت نقاط ضعفي الأخيرة

أنا ضعيف حقاً أمام الأشياء الجميلة

وجه أمي و قهوتها ..

ضحكة عدي و قبلة هدى ..

و عينيها الغافية الآن خلف إحدى هذه النوافذ ..

أبواب القطار أغلقت منذ قليل
و شباكك لساتو مطفي ... يا صبية

.............................


الآن أستطيع القول أنني تخلصت من هكذا طقوس .... طريقة اتكائي على النافذة و قائمة التشغيل في هاتفي يقولان لي :
لا مزيد من النوافذ في هانوفر

كانون ، 2018

Saturday, 23 December 2017

حائط في إدنغين

الفصل الرابع 

   حائط في إدنغين  

                                                           
أسابيع و الحقيقة الوحيدة التي أعيشها هي كلمة من حرفان و وهم أكثر كثافة من الحقيقة , وكلما انتهى الفلم ودارت بكرته في الليل أشتعل  للحظات و أتأمل عينيها الحمراوتين وقد فرغ جوهرهما من كل شيء , أتحسس المحادثة من جديد بحثاً عن أثر لكلمة حقيقية أو خيط  دقيق من المشاعر الصادقة , هل حقاً أنها كتبت " أي " في النهاية , هل حقاً أنني أذنبت بحقها حين هربت إلى الشام كي أجد الجواب بين فتلات ورود الياسمين بينما كانت هي الجواب ذاته . أما جوابي في السادس عشر من أغسطس وخلال عودتي من مدينة مانهايم هو أنني لا أدري وهذا يعني في قاموس الحب شمعة أخرى و عذاب آخر قادم !!!ء

  أغمض عيني , أعيد تشغيل الشريط في مخيلتي من جديد, وأتخيل المحادثة , كلماتها, تلك الوجوه التعبيرية الصفراء و كذباتها المختلقة لطريقة تعارفنا , ثم أنغمس أكثر وأتابع المشهد على المسرح البعيد من الذاكرة , أنا و هي مرة أخرى على الحائط. نسير , يدي في يدها (ظهرنا موجه للكون ) والطريق طويلة أمامنا , نسير و نسير , يدها أذكرهها جيداً , ناعمة و حارة . نسير لنصل لجدار عظيم و عبثاً أحاول أن أفتح كوة في الجدار , تمسك بيدي من جديد , أرى حينها عيون تتلون بالأحمر , تنظر إلي و تقول : توقف فقد  تأخرت أربع و عشرين ساعة . خطواتي لا تخلف أثراُ على الجدار , لا صوت لها ... تعود باستحياء , ثم أنهض نحونا لأراقب  ضياعنا في منعطف ما .ء

في تلك اللحظة لم يرق لي مشهد النهاية ... أشهرت قلمي و كتبت لها هذه المناجاة   
.
.
.
.


في قطار بعد منتصف الليل وعلى رصيف محطة نائية تدعى إدينغن ... تذكرتك
أنا لست أحد ..
لست أكثر من جسد ممدد في براد الغربة
لم توقظ رائحة جثته الراكب النائم في حضن صديقته الصهباء
أنا مجرد طرد ترانزيت من دفء وجه حبيبتي دمشق الغابر ...
كنت قد حدثتها عن عينيكي الجميلتين ...
حدثتها أيضا عن الكلمات التي كادت أن تقال بيننا ،
ثم امتنعنا عن إطلاقها إلى العدم ،
واحتفظنا فيها أسماكاً ملونة مضيئة داخل دورتنا الدموية ...
أو ربما أحدنا فقط كان البحر والآخر لم يرى في المياه يوماً إلا لون الغرق ...
يقولون : في ليل المسافرين المنخور بالوجع .... تنمو بذرة النسيان
و تصير غابة تحجب وجهك عن ذاكرتي ...
هذه الغابة الخمسين على ما أعتقد ...
تسع وأربعون غابة كنت قد قطعتها و صنعت من لحاء اشجارها ورقاً لكلماتي عنك ...
تلك الكلمات التي ظلت طريقها إليك في الصباح وقبل الغروب و عند منتصف الليل ..
ولكن هأنذا أتأمل أصابعي وأنا أكتب الرسالة الخمسين تتحول إلى خمسة عصافير
و تطير ...
عصفور عاد للوطن ليتلحف ياسمينة مهملة في فناء دارك
و آخر راح يتأمل تلك الشجيرة اليانعة في حديقتك ... ربما يريدها ورقاً لصفحتنا الأخيرة ...
وعصفور ينقر حبة قمح من يدك
ثم يعاود طيرانه في المدى ...
نعم فهكذا الجوى ...
لحظة فرح كونية هاربة ،
كنجم اشتعل ثم هوى ..
و عصفور قد تعملت منه الحب ،
سعيد بشجرتك ...
وسعيد أكثر بشهية التحليق
لست عصفوراً في اليد !
و عصفور هنا بجانبي ... يرسم وجهك فوق طاولة كتابتي ثم يرف بجناحيه سريعاً ليرى اهدابك على الأوراق تشاركه الحياة ... تتنفسين صبحاً ..
أقفز إليك داخل الدفتر ، لنركض معاً هاربين بين السطور ..
عجلة القطار تسرع و محطتي تقترب
خمسة عشر قرصاناً يتربصون بي
ولكن تجدني بين راكب و آخر ، ادخر نزيفي في بوتقة ما ...
هاقد وصلت
لكن
أين هي حروفي ؟
ويحي
الصفحة مملوءة بالثقوب !!
وبدماء خمسة عصافير صغيرة .
السادس عشر من اغسطس في الطريق الواصل بين إدينغن و ساحة العظيم هانس توما بعد أن عجزت بهاتفي متقلب المزاج من الحديث معها ...

.
.
.
.
. ..........................................................................................................

في العاشر من نوفمبر كانت حلا قد أخبرتني بأنها لم تجب ب نعم الا لانها لم ترد أن تظهر بمظهر ذوي الوجهين في نظر ياسين ... رأت أن محاباة طرف ثالث غريب عنها هو أفضل من أن تخبرني الحقيقة ... فقد اعتادت على أن الكذب على المحب هو أمر يجلب لها بعض التسلية ... 
وكان هاذا التصريح هو سهمها الخامس ولكنني أعترف بأنه الأكثر إيلاماً ...... 

                                                                                                   ........... يتبع

Saturday, 16 December 2017

19 C .... 24 D

ليلة صعبة على الذاكرة

   تركت رأسي يسقط على السرير مغمض العينين وفي داخل مخيلتي تدور دوامة هائلة من الصور والتفاصيل التي لم تتوقف عن الصراخ و العويل والتحديق بذاكرتي بعيون متشنجة مفتوحة دائماً . نفسي مسرح فسيح لأكثر الكتاب فوضوية تماما كشبكة رميت في  بحر خال من الاسماك . وكصياد كهل أصبح فجأة بلا ماض أو مستقبل أمضيت ليلتي وحيداً في المنزل الفارغ حتى مني . نعم قد كانت حلا حاضرة في نفس الحفلة لا بل في الصف الواقع خلفي مباشرة والى اليمين قليلاً . عدة مقاعد فقط فصلت بيينا , ولولا طلب فرح بالخروج باكراً قبل انتهاء الحفلة لكنت قد رأيتها حقاً , مثلما أرادت أن يكون لقاؤنا الأول عفوياً , غير متكلف , ومنسوج من خيوط القدر الناعمة .

  أكلت وجبتتي السريعة على عجل و سرت خارجاً في الطريق المؤدي نحو كنيسة النبي إلياس في صحنايا , كان الليل منعشاً  وخيوط  الفجر قد بللت الأفق حينها غمرتني رغبة عارمة في الاتصاال بها و معاتبتها على إخفاء حقيقة قدومها إلى الحفل ... فقد كانت أكداس الضباب تهوم داخل جمجتي ولم أدر إذا ما كنت سأحرم حقاً من رؤيتها كما حدث خلال زيارتها الماضية أيضاً . وما زاد حنقي في تلك الليلة قولها بأنها  رأت صديقتي فرح و لكن في المقابل لم ترني !ء  

 في الصباح قمت بإجراء مكالمة سريعة خالية من العتاب وتمني رحلة سعيدة لها في العودة إلى بلد الاغتراب, ثم وعدتها بتلقي رسالة خاصة  لحظة وصولها الى هناك ... وقد كان ما يلي ما قرأته حلا حينها :ء


 هي : كنت هناك .... نعم كنت خلفك مثل محطة تسمعها آملا أن تسمع فيها صداك 
... ظل حائر اقتفى آثار الجميع ولم يجدك 
... بوصلة أخفقت في الدوران 
... تصفيق متقطع بيد واحدة هو كل ما استطعت أن أقدمه إليك 
... قل ما تشاء فلا شيء عندي سوى أنني كنت هناك ولم تجدني

أنا : أدس وجهي تحت الوسادة 
... أبحث عن النوم لهله مختبئ تحتها فلا أجد إلا وجهك قريباً نائياً 
... وأفتح عيني أتأمل الستائر لعل النوم مختبئ خلفها 
... وأبحث ملياً 
... وراء اللوحة 
... تحت منضدة الزينة 
 أزيح بأهدابي شعاع النور الخافت الذي ينشل من النافذة الصغيرة ليلقي على الأشياء , وعلى وجهك فوق الأشياء كلها ظلاً من العتب المرير ....ء

ويبدأ زحف الوجوه في غرفتي 
... ويبدأ حشد الصور التي يفجرها الأرق في رأسي 
... ذات الرداء الأحمر, السواريه الأسود , القبعة الفرنسية , القمصان المتشحة بالنسيان 
... عشرات الحكايا و المشاهد ووجهك في النهاية فوق كل شيء 
.... آه من أمرأة توقظ الحزن و الحسرة و الحنين !!ء

يا لهذيان حبي و حربي , يا لعاصمة من الرعب تستيقظ في رأسي 
... يا لأيامي المتناثرة نتفاً من ذكريات و دوامات 
... ولا أملك سوى أن أتذكر و أتذكر .....ء

كان المدرج مثقلاً بالحضور , وكنت ارتمي كسولاً عاري التوهج و الملل حتى نسيت أن أحداً بجانبي ... وانبثقت ألحان الكمان في عيوني 
... ولكن نمت عنكي 
.... يا لخسارتي 
... أنت الملحن الكبير الذي يبكي المدينة و يضحكها و يرفه عن كواهل الشعب هم الصمود 
..... تجلسين في الخلف 
.... كم هي تعيسة هذه البلاد 

أيها الأرق الجميل 
... لملم عن أهدابي ذرات السعادة التي عرفتها 
.... فأنني أحبها في الليل حينما تكون بعيدة 
... أحبها كالبحر هكذا 
... بلا قناع من هالة القمر 
.... هل رأيت البحر في الليل ؟ 
... إنه وجه إنسان يحب 
... مليء الظلال و المخاوف والزفرات
وحين تكون قريبة ؟
أحبها أيضا لأنني أعرف أنها ستبتعد بعد حين 
... الشرط الأول للحب الحقيقي هو التحرق إلى اللقاء 
... هو السعي لتحقيق الطمأنينة 
.... إنه الدرب إلى الغاية لا الغاية نفسها 
.... يبلغ أوجه في اللحظة التي تسبق ثانية اللقاء 
.....وينطفئ بعدها بثوان

من أقفاصنا الزجاجية العازلة 
... نتكلم من دون أن يسمع أحدنا الآخر 
.... نقضي العمر تائهين في اللامكان 
... على الشواطئ وفي المطارات 
... بلا مرفأ وبلا مأوى 
... حتى إذا ما أطل مرفأ 
أدركنا أنه ليس لنا

لكن فكرة أنني لن أستطيع أن أراكي في هذا الوقت الهستيري من حياتي لتستحق مني أن أضعها في إطار سوداوي أشمل ..:ء
فبما أن الكرة الأرضية قاطبة تستطيع أن ترمقك بنجومها و بحارها 
... بشمسها و جبالها المتسابقة الى الأعلى لنظرة أقرب 
 وبما أني لم أكن في يوم من الأيام واحداً من آلاق المارة المحظوظين في الشوارع أو واحداً من مئات مرتادي مقاهيكي المفضلة ... , حتى أن أجلس بقربك على كرسي مهمل في إحدى الحافلات 
... فإنني والقدر في اتجاهين متضادين 
.... على الأقل حتى إشعار آخر

ثم كان صوتك 
... تلك النبرات المفعمة بلوعة غامضة و مرارة تحرك وتراً دفيناً في أعماق نفسي 
... لتشم رائحة أمطار حزينة تلاحق تلك الدمشقية التائهة , ولتسمع صرير أبواب صدئة لم تفتح منذ زمن بعيد , ونمت على الأحجار حولها نباتات الشوك والعليق لتملا المكان بالوحشة والنفور 
.... سوف تنجحين 
.... إنني أفهمك جيداً 
... سوف تنجحين


Saturday, 9 December 2017

الموناليزا

منذ اللحظة الأولى في تلك الأمسية بدأت لعبة الحوار الممتع معها , يأخذ كل منا طرف المبادرة 
عنوة قبل أن نمنحه لبعضنا البعض بلباقة الزملاء , كانت تمهد الطريق دائماً لتوصلني إلى المحطة التي تريدها مسبقاً لتساعد بذلك على اختصار المسافة بين فكري و عقلها فتشعر وكأن لا مسافة بينهما و لكن العكس هو الصحيح .
أخبرتها أنني في البدء ابتعت التذاكر لدعوة حلا إلى هذه الحفلة و قد خمنت حينها أنها لربما ستأتي برفقة إحدى صديقاتها وهذا ما فسر المقعد الفارغ بجانب فرح وكالعادة اعتذرت حلا عن المجيء لأنها لا تملك الوقت الكافي بسبب زيارتها القصيرة لدمشق . وقد قمت بالالحاح على فرح للقدوم لأنها الوحيدة التي تستطيع إعطاء بعض التفاسير المحتملة للفوضى التي تجتاح كياني مؤخراً .

قلت : أترين إذاً ففي الحقيقة إنني لم أدعوك لسماع الموسيقى بقدر ما أردت أن أسمعك صراخ المشادة التي تحدث في كل لحظة بين عقلي و قلبي, فاعذريني لأجل هذا . أنا حبيب سيء و صديق أسوأ في هذه الأيام .


قالت وقد ركزت عيونها على الستارة الحمراء : لا عليك, أنت تعلم حقاُ أنني لا أحبذ الاقتراب من الناس المدليين عاشقي المظاهر الاجتماعية الذين في النهاية تزوجهم أمهاتهم, فليس صديقي من لم يعرف الألم و الخيبة والفجيعة و الفوضى و لست فرح إن لم أحاول إعادة الابتسامة على وجوههم,
أما فيما يتعلق ب حلا فإنني قلت لك مراراً أنك ومن دون شك  شديد الإعجاب بها فقط , لا أكثر ولا أقل. 


قلت :كم أتمنى ذلك حقاً .. فأنا عاجز تماماً عن تفسير ما يحدث لي ... بدأت أومن بأن هناك أحداثاً في الحياة لسنا قادرين على فهمها مطلقاً .. كالفرق مثلاً بين الإعجاب و الحب
فقد تعجبكِ لوحة في أحد المعارض و تقضين بضعة ساعات من الوقت تتأملين تفاصيلها ولكن في المقابل حين تحبين اللوحة التي على الحائط المجاور فإنك ستقفين أمامها خمسة دقائق فقط ! 

والسبب هو يقينك بأنك ستأتين لسرقتها ليلاً .

قالت : أترى هذا الستار الأحمر , تخيل معي  لو تم أخبارنا الآن أنه سيفتح في هذه اللحظة لنرى إحدى أعظم اللوحات الفنية في التاريخ ... فماذا تتمنى أن تكون هذه اللوحة ؟

أجبت بدون تردد : الموناليزا


ابتسمت حينها كابتسامة من ينال من عدوه بعد ألف معركة ثم قالت :

هناك يا عزيزي طبيب حنجرة مشهور قال عندما وقف أمام الموناليزا "رائعة دافنشي " :
تعبير الوجه لامرأة تشكو من التهاب الحلق و الحنجرة  .. هذا كل ما أراه فيها
أما محبوبك فرويد , فكل ما قال في حضرة الجيوكاندا :
ليس فيها أنوثة , إنها شاب متنكر في ثياب أمرأة , هذا دليل على أن من رسمها منحرف جنسياً !
ولكن مع كل هذا تبقى المونليرا .. هي الموناليزا .
أما سؤالي لك ... ماذا لو كنت فرويد أو ذلك الطبيب المشهور ؟



أنا متأكد أن كلاهما يتعمد الإساءة , لا بل إني أجزم أنها مجرد تصريحات لمعاكسة الحقيقة من أجل لفت الانتباه ... على مبدأ خالف تعرف .


آه كم أرغب في الحديث معك بعد أول لقاء سيجمعك معها


قلت : من تقصدين الموناليزا أم حلا ؟

قالت : لا بل كلاهما 


أطفئت أنوار القاعة و سادت الموسيقا المكان لتنسيني النظر الى الخلف والايمن قليلاً...



       ..... يتبع

Friday, 8 December 2017

الفصل الأول ... القدر هو رئة الحب

الطريق من دار الأوبرا إلى محطة الحافلات

دمشق , خريف 2015
قالت : ألم يلهمك هذا المنظر شيئاً ؟

قلت : ماذا تقصدين ؟
قالت : انظر أمامك الى هذه الحفرة التي أحدثتها البارحة احدى قذائف الهاون و إلى هذا الكم الغفير من الحضور الذين جاؤوا كمثلنا نحن لإراحة آذانهم من سماع أصوات المدافع فقط , أي بغض النظر عن جودة الموسيقى التي تنتظرهم داخلاً . بالمناسبة هل سنشارك بالغناء أيضاً,فلدي رغبة هائلة بكسر الحدود اليوم.

قلت : للأسف إنها ليلة للموسيقى الكلاسيكية الغربية فقط , لكن بإمكانك القيام بصفقة طلائعية مثلاً
صاحت مبتسمة : أتهزأ بي يا عبد ! بسيطة ! انتظر لحظة

أنا
: إلى أين! ستفوتنا الحفلة يا مجنونة.
عادت خطوتين للوراء ثم وقفت أمام الحفرة وقالت : كذبت ثلاث كذبات بيضاء على أمي لأخرج في هذا الوقت المتأخر و تريدني أن أصفق صفقة طلائعية ؟
ماذا ستفعلين إذن ؟
قالت : سأرقص هنا ... حول هذه الحفرة ... سأرقص حول الموت!

كانت في رقصة فرح خفة و تبختر أنيق , وفي تمايل خصرها حول الحفرة نشوة للحياة . شعرها كأنه وشاح أسود على صفحة من ثلج , فهي لم تفرقه أو تضمه يوماً وإنما كانت مهووسة بإزاحة خصلة منه خلف إحدى أذنيها بينما كانت تخفي الأخرى دائماً ... و في تلك اللحظة فقط أيقنت أنني أرى الجانب الآخر منها لأول مرة ...الآن لا أشاهد فرح الطالبة المتذمرة من كلية الصيدلة  التي لم ترغب بدخولها يوماً ولا أرى فيها الحرص الشديد على أناقتها و مظهرها الخارجي و " حكي الناس " و لا تلك الفتاة المزعجة التي توقظني فجراً لأنها تواجه مشكلة تقنية تافهة على هاتفها المحمول ... كل ما رأيته في تلك اللحظة هو ببساطة  الرقصة الأهم في تاريخ دار أوبرا دمشق.


شملتني بنظرة سريعة ثم قالت : الآن دعنا نذهب لنصفق كما تريد ,ثم عادت و أخذت مكانها أمامي  في طابور الحضور قبل نقطة التفتيش.
همست في أذنها : أيتها المجنونة , فضحتينا !! , متى ستكبرين ؟
ضحكت بعفوية مبالغ فيها وكأنها طفلة في الخامسة من عمرها ثم استدارت وقالت متسائلة : ما رأيك أنت .. متى يكبر الإنسان ؟

لا أعرف فالعمر مفهوم فضفاض , ذاتي الفهم , فالقوميون مثلاَ يدعون أن ولادتهم حدثت مع إعلان الوحدة أي في عام 1958 , وفي الصين يحسب الناس عمر الإنسان ابتداءً من اول يوم في الحمل أي عليك إنقاص تسعة أشعر من تاريخ ميلادك , أما القبانيون فقد يولد أحدهم هنا في هذه اللحظة عندما يرى جمال عينيكِ . فأي الأعمار ستختارين؟
لا رغبة لي بتحويل دار الاوبرا الى غرفة مخاض .. قالت ذلك ولم نتمالك أنفسنا من الضحك حتى وصلنا لنقطة التفتيش.
 لحظات معدودة وأصبحنا داخل القاعة.
كنتي قاسية في الرد اليوم على عبارتي الساخرة " صفقة طلائعية " ... هل كل شيء على  ما يرام ؟
بدت ابتسامة ماكرة على محياها و قالت :

لو لم أرك بعيني تستلم منذ يومين شهادة تخرجك من كلية الطب لقلت أن الموت اختارك لتكون مدعي عام ضد الراقصين بالقرب منه . اعذرني فقد كان تصرف عفوي ليس أكثر ... أما ما لا أراه عفوياً الآن هو أنك قمت بحجز ثلاثة مقاعد , فهل من أحد آخر قادم ؟
لا أبداً ..نحن الاثنين فقط .

فرح ليست من الأشخاص الذين يكتفون بهكذا إجابات ولم أكن أرغب حينها في الحديث عن أي شيء  فقد آثرت المجيء رغم خيبتي الكبيرة لأبتعد بفكري عن منطق النساء ولو قليلاً . لكن مع أسئلتها المتتابعة فقدت أي أمل في الصمود , لقد كانت حقاً في مزاج جيد تستحيل معه فرصة إسكاتها الى العدم .

                                                                                                          ..... يتبع