ليلة صعبة على الذاكرة
تركت رأسي يسقط على السرير مغمض العينين وفي داخل مخيلتي تدور دوامة هائلة من الصور والتفاصيل التي لم تتوقف عن الصراخ و العويل والتحديق بذاكرتي بعيون متشنجة مفتوحة دائماً . نفسي مسرح فسيح لأكثر الكتاب فوضوية تماما كشبكة رميت في بحر خال من الاسماك . وكصياد كهل أصبح فجأة بلا ماض أو مستقبل أمضيت ليلتي وحيداً في المنزل الفارغ حتى مني . نعم قد كانت حلا حاضرة في نفس الحفلة لا بل في الصف الواقع خلفي مباشرة والى اليمين قليلاً . عدة مقاعد فقط فصلت بيينا , ولولا طلب فرح بالخروج باكراً قبل انتهاء الحفلة لكنت قد رأيتها حقاً , مثلما أرادت أن يكون لقاؤنا الأول عفوياً , غير متكلف , ومنسوج من خيوط القدر الناعمة .
أكلت وجبتتي السريعة على عجل و سرت خارجاً في الطريق المؤدي نحو كنيسة النبي إلياس في صحنايا , كان الليل منعشاً وخيوط الفجر قد بللت الأفق حينها غمرتني رغبة عارمة في الاتصاال بها و معاتبتها على إخفاء حقيقة قدومها إلى الحفل ... فقد كانت أكداس الضباب تهوم داخل جمجتي ولم أدر إذا ما كنت سأحرم حقاً من رؤيتها كما حدث خلال زيارتها الماضية أيضاً . وما زاد حنقي في تلك الليلة قولها بأنها رأت صديقتي فرح و لكن في المقابل لم ترني !ء
في الصباح قمت بإجراء مكالمة سريعة خالية من العتاب وتمني رحلة سعيدة لها في العودة إلى بلد الاغتراب, ثم وعدتها بتلقي رسالة خاصة لحظة وصولها الى هناك ... وقد كان ما يلي ما قرأته حلا حينها :ء
هي : كنت هناك .... نعم كنت خلفك مثل محطة تسمعها آملا أن تسمع فيها صداك
... ظل حائر اقتفى آثار الجميع ولم يجدك
... بوصلة أخفقت في الدوران
... تصفيق متقطع بيد واحدة هو كل ما استطعت أن أقدمه إليك
... قل ما تشاء فلا شيء عندي سوى أنني كنت هناك ولم تجدني
أنا : أدس وجهي تحت الوسادة
... أبحث عن النوم لهله مختبئ تحتها فلا أجد إلا وجهك قريباً نائياً
... وأفتح عيني أتأمل الستائر لعل النوم مختبئ خلفها
... وأبحث ملياً
... وراء اللوحة
... تحت منضدة الزينة
أزيح بأهدابي شعاع النور الخافت الذي ينشل من النافذة الصغيرة ليلقي على الأشياء , وعلى وجهك فوق الأشياء كلها ظلاً من العتب المرير ....ء
ويبدأ زحف الوجوه في غرفتي
... ويبدأ حشد الصور التي يفجرها الأرق في رأسي
... ذات الرداء الأحمر, السواريه الأسود , القبعة الفرنسية , القمصان المتشحة بالنسيان
... عشرات الحكايا و المشاهد ووجهك في النهاية فوق كل شيء
.... آه من أمرأة توقظ الحزن و الحسرة و الحنين !!ء
يا لهذيان حبي و حربي , يا لعاصمة من الرعب تستيقظ في رأسي
... يا لأيامي المتناثرة نتفاً من ذكريات و دوامات
... ولا أملك سوى أن أتذكر و أتذكر .....ء
كان المدرج مثقلاً بالحضور , وكنت ارتمي كسولاً عاري التوهج و الملل حتى نسيت أن أحداً بجانبي ... وانبثقت ألحان الكمان في عيوني
... ولكن نمت عنكي
.... يا لخسارتي
... أنت الملحن الكبير الذي يبكي المدينة و يضحكها و يرفه عن كواهل الشعب هم الصمود
..... تجلسين في الخلف
.... كم هي تعيسة هذه البلاد
أيها الأرق الجميل
... لملم عن أهدابي ذرات السعادة التي عرفتها
.... فأنني أحبها في الليل حينما تكون بعيدة
... أحبها كالبحر هكذا
... بلا قناع من هالة القمر
.... هل رأيت البحر في الليل ؟
... إنه وجه إنسان يحب
... مليء الظلال و المخاوف والزفرات
وحين تكون قريبة ؟
أحبها أيضا لأنني أعرف أنها ستبتعد بعد حين
... الشرط الأول للحب الحقيقي هو التحرق إلى اللقاء
... هو السعي لتحقيق الطمأنينة
.... إنه الدرب إلى الغاية لا الغاية نفسها
.... يبلغ أوجه في اللحظة التي تسبق ثانية اللقاء
.....وينطفئ بعدها بثوان
من أقفاصنا الزجاجية العازلة
... نتكلم من دون أن يسمع أحدنا الآخر
.... نقضي العمر تائهين في اللامكان
... على الشواطئ وفي المطارات
... بلا مرفأ وبلا مأوى
... حتى إذا ما أطل مرفأ
أدركنا أنه ليس لنا
لكن فكرة أنني لن أستطيع أن أراكي في هذا الوقت الهستيري من حياتي لتستحق مني أن أضعها في إطار سوداوي أشمل ..:ء
فبما أن الكرة الأرضية قاطبة تستطيع أن ترمقك بنجومها و بحارها
... بشمسها و جبالها المتسابقة الى الأعلى لنظرة أقرب
وبما أني لم أكن في يوم من الأيام واحداً من آلاق المارة المحظوظين في الشوارع أو واحداً من مئات مرتادي مقاهيكي المفضلة ... , حتى أن أجلس بقربك على كرسي مهمل في إحدى الحافلات
... فإنني والقدر في اتجاهين متضادين
.... على الأقل حتى إشعار آخر
ثم كان صوتك
... تلك النبرات المفعمة بلوعة غامضة و مرارة تحرك وتراً دفيناً في أعماق نفسي
... لتشم رائحة أمطار حزينة تلاحق تلك الدمشقية التائهة , ولتسمع صرير أبواب صدئة لم تفتح منذ زمن بعيد , ونمت على الأحجار حولها نباتات الشوك والعليق لتملا المكان بالوحشة والنفور
.... سوف تنجحين
.... إنني أفهمك جيداً
... سوف تنجحين

No comments:
Post a Comment